فصل: باب وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى

مساءً 3 :4
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*سورة وَالذَّارِيَاتِ

قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَام الذَّارِيَاتُ الرِّيَاحُ وَقَالَ غَيْرُهُ تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ فَرَاغَ فَرَجَعَ فَصَكَّتْ فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ بِهِ جَبْهَتَهَا وَالرَّمِيمُ نَبَاتُ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ لَمُوسِعُونَ أَيْ لَذُو سَعَةٍ وَكَذَلِكَ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرَهُ يَعْنِي الْقَوِيَّ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ حُلْوٌ وَحَامِضٌ فَهُمَا زَوْجَانِ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ إِلَيْهِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْقَدَرِ وَالذَّنُوبُ الدَّلْوُ الْعَظِيمُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ صَرَّةٍ صَيْحَةٍ ذَنُوبًا سَبِيلًا الْعَقِيمُ الَّتِي لَا تَلِدُ وَلَا تُلْقِحُ شَيْئًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُبُكُ اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا فِي غَمْرَةٍ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ وَقَالَ غَيْرُهُ تَوَاصَوْا تَوَاطَئُوا وَقَالَ مُسَوَّمَةً مُعَلَّمَةً مِنْ السِّيمَا قُتِلَ الْإِنْسَانُ لُعِنَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة والذريات‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، والواو للقسم، والفاءات بعدها عاطفات من عطف المتغايرات وهو الظاهر، وجوز الزمخشري أنها من عطف الصفات، وأن الحاملات وما بعدها من صفات الريح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال على الرياح‏)‏ كذا لهم، ولأبي ذر‏.‏

وقال علي‏:‏ الذاريات الرياح، وهو عند الفريابي عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن علي، وأخرجه ابن عيينة في تفسيره أتم من هذا عن ابن أبي الحسين ‏"‏ سمعت أبا الطفيل قال‏:‏ سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالب عن الذاريات ذروا قال‏:‏ الرياح، وعن الحاملات وقرا، قال‏:‏ السحاب، وعن الجاريات يسرا، قال‏:‏ السفن، وعن المدبرات أمرا قال‏:‏ الملائكة ‏"‏ وصححه الحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل‏.‏

وابن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو اسمه عبد الله، وهذا التفسير مشهور عن علي‏.‏

وأخرج عن مجاهد وابن عباس مثله، وقد أطنب الطبري في تخريج طرقه إلى علي، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن أبي الطفيل قال ‏"‏ شهدت عليا وهو يخطب وهو يقول‏:‏ سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل أنزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل‏.‏

فقال ابن الكواء وأنا بينه وبين علي وهو خلفي فقال‏:‏ ما الذاريات ذروا‏؟‏ فذكر مثله وقال فيه‏:‏ ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا ‏"‏ وفيه سؤاله عن أشياء غير هذا، وله شاهد مرفوع أخرجه البزار وابن مردويه بسند لين عن عمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره تذروه تفرقه‏)‏ هو قول أبي عبيدة، قال في سورة الكهف في قوله‏:‏ ‏(‏تذروه الرياح‏)‏ أي تفرقه، ذروته وأذريته‏.‏

وقال في تفسير الذاريات الرياح، وناس يقولون المذريات ذرت وأذرت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏:‏ تأكل وتشرب في مدخل واحد ويخرج من موضعين‏)‏ أي القبل والدبر، وهو قول الفراء‏.‏

قال في قوله تعالى ‏(‏وفي أنفسكم‏)‏ يعني أيضا آيات، إن أحدكم يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من موضعين، ثم عنفهم فقال ‏(‏أفلا تبصرون‏)‏ ‏؟‏ ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال ‏(‏وفي أنفسكم‏)‏ قال فيما يدخل من طعامكم وما يخرج‏.‏

وأخرج الطبري من طريق محمد بن المريفع عن عبد الله بن الزبير في هذه الآية قال‏:‏ سبيل الغائط والبول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قتل الخراصون‏)‏ أي لعنوا، كذا في بعض النسخ، وقد تقدم في كتاب البيوع‏.‏

وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏قتل الخراصون‏)‏ قال‏:‏ لعن الكذابون‏.‏

وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏(‏قتل الخراصون‏)‏ قال‏:‏ الكذابون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فراغ فرجع‏)‏ هو قول الفراء وزاد‏:‏ والروغ وإن جاء بهذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه لذهابه ومجيئه‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏فراغ‏)‏ أي عدل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصكت‏:‏ فجمعت أصابعها فضربت به جبهتها‏)‏ في رواية ابن ذر ‏"‏ سمعت ‏"‏ بغير فاء وهو قول الفراء بلفظه‏.‏

ولسعيد بن منصور من طريق الأعمش عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏فصكت وجهها‏)‏ قال ضربت بيدها على جبهتها وقالت يا ويلتاه‏.‏

وروى الطبري من طريق السدي قال‏:‏ ضربت وجهها عجبا‏.‏

ومن طريق الثوري‏:‏ وضعت يدها على جبهتها تعجبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتولى بركنه من معه لأنهم من قومه‏)‏ هو قول قتادة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه‏.‏

وقال الفراء وثبت هذا هنا للنسفي وحده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والرميم نبات الأرض إذا يبس وديس‏)‏ هو قول الفراء، وديس بكسر الدال وسكون التحتانية بعدها مهملة من الدوس وهو وطء الشيء بالقدم حتى يفتت ومنه دياس الأرض‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة‏:‏ الرميم الشجر‏.‏

وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ الرميم الهالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لموسعون أي لذو سعة، وكذلك على الموسع قدره‏)‏ يعني في قوله تعالى ‏(‏ومتعوهن على الموسع قدره‏)‏ أي من يكون ذا سعة، قال الفراء ‏(‏وإنا لموسعون‏)‏ أي لذو سعة لخلقنا، وكذا قوله‏:‏ ‏(‏على الموسع قدر‏)‏ يعني القوي‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح قال ‏(‏وإنا لموسعون‏)‏ قال أن نخلق سماء مثلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏زوجين الذكر والأنثى واختلاف الألوان حلو وحامض فهما زوجان‏)‏ هو قول الفراء أيضا ولفظه‏:‏ الزوجان من جميع الحيوان الذكر والأنثى، ومن سوى ذلك اختلاف ألوان النبات وطعوم الثمار بعض حلو وبعض حامض‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي معناه‏.‏

وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏خلقنا زوجين‏)‏ قال‏:‏ الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والجن والإنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففرو إلى الله‏:‏ من الله إليه‏)‏ أي من معصيته إلى طاعته أو من عذابه إلى رحمته، هو قول الفراء أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا ليعبدون‏)‏ في رواية أبي ذر ‏(‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏)‏ ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحدون، هو قول الفراء، ونصره ابن قتيبة في ‏"‏ مشكل القرآن ‏"‏ له‏.‏

وسبب الحمل على التخصيص وجود من لا يعبده، فلو حمل على ظاهره لوقع التنافي بين العلة والمعلول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال بعضهم خلقهم ليفعلوا ففعل بعض وترك بعض، وليس فيه حجة لأهل القدر‏)‏ هو كلام الفراء أيضا، وحاصل التأويلين أن الأول محمول على أن اللفظ العام مراد به الخصوص، وأن المراد أهل السعادة من الجن والإنس، والثاني باق على عمومه لكن بمعنى الاستعداد، أي خلقهم معدين لذلك لكن منهم من أطاع ومنهم من عصي، وهو كقولهم الإبل مخلوقة للحرث أي قابلة لذلك، لأنه قد يكون فيها ما لا يحرث‏.‏

وأما قوله ‏"‏ وليس فيه حجة لأهل القدر ‏"‏ فيريد المعتزلة، لأن محصل الجواب أن المراد بالخلق خلق التكليف لا خلق الجبلة، فمن وفقه عمل لما خلق له ومن خذله خالف، والمعتزلة احتجوا بالآية المذكورة على أن إرادة الله لا تتعلق به، والجواب أنه لا يلزم من كون الشيء معللا بشيء أن يكون ذلك الشيء مرادا وأن لا يكون غيره مرادا، ويحتمل أن يكون مراده بقوله ‏"‏ وليس فيه حجة لأهل القدر ‏"‏ أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد وأن تكون معلولة فقال‏:‏ لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه، أو لأنهم احتجوا بها على أن أفعال العباد مخلوقة لهم لإسناد العبادة إليهم فقال‏:‏ لا حجة لهم في ذلك لأن الإسناد من جهة الكسب، وفي الآية تأويلات أخرى يطول ذكرها‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال‏:‏ خلقهم للعبادة، فمن العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والذنوب الدلو العظيم‏)‏ هو قول الفراء لكن قال ‏"‏ العظيمة ‏"‏ وزاد‏:‏ ولكن العرب تذهب بها إلى الحظ والنصيب‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الذنوب النصيب، وأصله من الدلو، والذنوب والسجل واحد، والسجل أقل ملإ من الدلو قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد ذنوبا سبيلا‏)‏ وقع هذا مؤخرا عن الذي بعده لغير أبي ذر والذي عنده أولى، وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم‏)‏ قال‏:‏ سجلا من العذاب مثل عذاب أصحابهم‏.‏

وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏فإن للذين ظلموا ذنوبا‏)‏ قال‏:‏ سبيلا‏.‏

قال وقال ابن عباس‏:‏ سجلا، وهو بفتح المهملة وسكون الجيم‏.‏

ومن طريق ابن جريج عن عطاء مثله وأنشد عليه شاهدا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صرة صيحة‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد‏.‏

وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏صرة‏)‏ شدة صوت، يقال أقبل فلان يصطر أي يصوت صوتا شديدا‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال‏:‏ أقبلت ترن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏العقيم التي لا تلد‏)‏ زاد أبو ذر ‏"‏ ولا تلقح شيئا ‏"‏ أخرج ابن المنذر من طريق الضحاك قال‏:‏ العقيم التي لا تلد‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة‏:‏ العقيم التي لا تنبت‏.‏

وأخرج الطبري والحاكم من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ الريح العقيم التي لا تلقح شيئا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس والحبك استواؤها وحسنها‏)‏ تقدم في بدء الخلق‏.‏

وأخرجه الفريابي عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومن طريق سفيان أخرجه الطبري وإسناده صحيح لأن سماع الثوري من عطاء بن السائب كان قبل الاختلاط‏.‏

وأخرجه الطبري من وجه آخر صحيح عن ابن عباس‏.‏

وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏(‏ذات الحبك‏)‏ قال‏:‏ ذات الخلق الحسن وللطبري من طريق عوف عن الحسن قال‏:‏ حبكت بالنجوم‏.‏

ومن طريق عمران بن جدير‏:‏ سئل عكرمة عن قوله‏:‏ ‏(‏ذات الحبك‏)‏ قال‏:‏ ذات الخلق الحسن، ألم تر إذا نسج إذا نسج الثوب قال‏:‏ ما أحسن ما حبكه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في غمرة‏:‏ في ضلالتهم يتمادون‏)‏ كذا للأكثر، ولأبي ذر ‏"‏ في غمرتهم ‏"‏ والأول أولى لوقوعه في هذه السورة، وأما الثاني فهو في سورة الحجر، لكن قوله في ضلالتهم يؤيد الثاني وكأنه ذكره كذلك هنا للاشتراك في الكلمة وقد وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏الذين هم في غمرة ساهون‏)‏ قال‏:‏ في ضلالتهم يتمادون‏.‏

ووقع في رواية النسفي ‏"‏ في صلاتهم أو ضلالتهم ‏"‏ بالشك والأول تصحيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره تواصوا به تواطئوا‏)‏ سقط هذا لأبي ذر، وقد أخرجه ابن المنذر من طريق أبي عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏أتواصوا به‏)‏ تواطئوا عليه وأخذه بعضهم عن بعض، وإذا كانت شيمة غالبة على قوم قيل كأنما تواصوا به‏.‏

وروى الطبري من طرق عن قتادة قال‏:‏ هل أوصى الأول الأخر منهم بالتكذيب‏؟‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره مسومة معلمة من السيما‏)‏ هو قول أبي عبيدة، ووصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏مسومة‏)‏ قال‏:‏ معلمة‏.‏

وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏مسومة‏)‏ قال مختومة بلون أبيض وفيه نقطة سوداء وبالعكس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قتل الإنسان لعن‏)‏ سقط هذا لغير أبي ذر، وقد تقدم تفسير قتل بلعن في أوائل السورة‏.‏

وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج في قوله‏:‏ ‏(‏قتل الخراصون‏)‏ قال‏:‏ هي مثل التي في عبس ‏(‏قتل الإنسان‏)‏ ‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يذكر البخاري في هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيها على شرطه حديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من طريق أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال ‏"‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أنا الرزاق ذو القوة المتين ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حسن صحيح، وصححه ابن حبان

*3*سورة وَالطُّورِ

وَقَالَ قَتَادَةُ مَسْطُورٍ مَكْتُوبٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الطُّورُ الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ رَقٍّ مَنْشُورٍ صَحِيفَةٍ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ سَمَاءٌ الْمَسْجُورِ الْمُوقَدِ وَقَالَ الْحَسَنُ تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَلَتْنَاهُمْ نَقَصْنَا وَقَالَ غَيْرُهُ تَمُورُ تَدُورُ أَحْلَامُهُمْ الْعُقُولُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَرُّ اللَّطِيفُ كِسْفًا قِطْعًا الْمَنُونُ الْمَوْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ يَتَنَازَعُونَ يَتَعَاطَوْنَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة الطور‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ كذا لأبي ذر، واقتصر الباقون على والطور، والواو للقسم وما بعدها عاطفات أو للقسم أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال قتادة‏:‏ مسطور مكتوب‏)‏ سقط هذا من رواية أبي ذر وثبت لهم في التوحيد، وقد وصله المصنف في كتاب خلق أفعال العباد من طريق سعيد عن قتادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ الطور الجبل بالسريانية‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا؛ قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة‏:‏ قوله والطور قال جبل يقال له الطور‏.‏

وعمن سمع عكرمة مثله‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الطور الجبل في كلام العرب‏.‏

وفي المحكم‏:‏ الطور الجبل، وقد غلب على طور سيناء جبل بالشام، وهو بالسريانية طوري بفتح الراء والنسبة إليه طوري وطوراني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رق منشور صحيفة‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وكتاب مسطور، في رق منشور‏)‏ قال صحف ورق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏منشور‏)‏ قال‏:‏ صحيفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والسقف المرفوع سماء‏)‏ سقط هذا لأبي ذر، وتقدم في بدء الخلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمسجور الموقد‏)‏ في رواية الحموي والنسفي ‏"‏ الموقر ‏"‏ بالراء والأول هو الصواب، وقد وصله إبراهيم الحربي في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ والطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال ‏"‏ الموقد ‏"‏ بالدال‏.‏

وأخرج الطبري من طريق سعيد بن المسيب قال‏:‏ قال علي لرجل من اليهود أين جهنم‏؟‏ قال‏:‏ البحر‏.‏

قال ما أراه إلا صادقا‏.‏

ثم تلا ‏(‏والبحر المسجور - وإذا البحار سجرت‏)‏ وعن زيد بن أسلم قال ‏(‏البحر المسجور‏)‏ الموقد ‏(‏وإذا البحار سجرت‏)‏ أوقدت‏.‏

ومن طريق شمر بن عطية قال ‏(‏البحر المسجور‏)‏ التنور المسجور، قال‏:‏ وفيه قول آخر، قال أبو عبيدة‏:‏ المسجور المملوء وأخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة مثله، ورجحه الطبري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن‏:‏ تسجر حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة‏)‏ وصله الطبري من طريق سعيد عن قتادة عن الحسن في قوله‏:‏ ‏(‏وإذا البحار سجرت‏)‏ فذكره، فبين الحسن أن ذلك يقع يوم القيامة، وأما اليوم فالمراد بالمسجور الممتلئ‏.‏

ويحتمل أن يطلق عليه ذلك باعتبار ما يئول إليه حاله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ ألتناهم نقصناهم‏)‏ وقد تقدم في الحجرات‏.‏

وأخرج عبد الرزاق مثله عن ابن عباس بإسناد صحيح، وعن معمر عن قتادة قال ‏"‏ ما ظلمناهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره تمور تدور‏)‏ وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال في قوله تعالى ‏(‏يوم تمور السماء مورا‏)‏ قال‏:‏ مورها تحركها‏.‏

وأخرج الطبري من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏يوم تمور السماء مورا‏)‏ قال‏:‏ تدور دورا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحلامهم‏:‏ العقول‏)‏ هو قول زيد بن أسلم، ذكره الطبري عنه‏.‏

وقال الفراء‏:‏ الأحلام في هذا الموضع العقول والألباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس‏:‏ البر اللطيف‏)‏ سقط هذا لأبي ذر هنا وثبت لهم في التوحيد، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وسيأتي الكلام عليه في التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كسفا قطعا‏)‏ وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ولابن أبي حاتم من طريق قتادة مثله، ومن طريق السدي قال‏:‏ عذابا‏.‏

وقال أبو عبيدة ‏(‏كسفا‏)‏ الكسف جمع كسفة مثل السدر جمع سدرة‏.‏

وهذا يضعف قول من رواه بالتحريك فيهما، وقد قيل إنها قراءة شاذة وأنكرها بعضهم وأثبتها أبو البقاء العكبري وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المنون الموت‏)‏ وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏ريب المنون‏)‏ قال‏:‏ الموت‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله‏.‏

وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال‏:‏ المنون حوادث الدهر‏.‏

وذكر ابن إسحاق في السيرة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس‏:‏ أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة قال قائل منهم‏:‏ احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء، فإنما هو واحد منهم‏.‏

فأنزل الله تعالى ‏(‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏)‏ وهذا كله يؤيد قول الأصمعي‏:‏ أن المنون واحد لا جمع له، ويبعد قول الأخفش أنه جمع لا واحد له‏.‏

وأما قول الداودي‏:‏ أن المنون جمع منية فغير معروف، مع بعده من الاشتقاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره يتنازعون‏:‏ يتعاطون‏)‏ هو قول أبي عبيدة وصله ابن المنذر من طريقه وزاد‏:‏ أي يتداولون‏.‏

قال الشاعر ‏"‏ نازعته الراح حتى وقفه الساري‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أم سلمة قالت‏.‏

شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي‏)‏ أي أنها كانت ضعيفة لا تقدر على الطواف ماشية، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثُونِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ قَالَ كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ قَالَ سُفْيَانُ فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو ابن عيينة ‏(‏قال حدثوني عن الزهري‏)‏ اعترضه الإسماعيلي بما أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة ‏"‏ سمعت الزهري قال ‏"‏ فصرحا عنه بالسماع، وهما ثقتان‏.‏

قلت‏:‏ وهو اعتراض ساقط؛ فإنهما ما أوردا من الحديث إلا القدر الذي ذكره الحميدي عن سفيان أنه سمعه من الزهري، بخلاف الزيادة التي صرح الحميدي عنه بأنه لم يسمعها من الزهري، وإنما بلغته عنه بواسطة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كاد قلبي يطير‏)‏ قال الخطابي كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، وذلك من قوله تعالى ‏(‏أم خلقوا من غير شيء‏)‏ قيل معناه ليسوا أشد خلقا من خلق السموات والأرض لأنهما خلقتا من غير شيء، أي هل خلقوا باطلا لا يؤمرون ولا ينهون‏؟‏ وقيل المعنى أم خلقوا من غير خالق‏؟‏ وذلك لا يجوز فلا بد لهم من خالق، وإذا أنكروا الخالق فهم الخالقون لأنفسهم، وذلك في الفساد والبطلان أشد، لأن ما لا وجود له كيف يخلق، وإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا‏.‏

ثم قال ‏(‏أم خلقوا السموات والأرض‏)‏ أي إن جاز لهم أن يدعوا خلق أنفسهم فليدعوا خلق السموات والأرض، وذلك لا يمكنهم، فقامت الحجة‏.‏

ثم قال ‏(‏بل لا يوقنون‏)‏ فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان وهو عدم اليقين الذي هو موهبة من الله ولا يحصل إلا بتوفيقه، فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام‏.‏

انتهي‏.‏

ويستفاد من قوله فلما بلغ هذه الآية أنه استفتح من أول السورة، وظاهر السياق أنه قرأ إلى آخرها، وقد تقدم البحث في ذلك في صفة الصلاة

*3*سورة وَالنَّجْمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة والنجم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ كذا لأبي ذر، وللباقين والنجم حسب، والمراد بالنجم الثريا في قول مجاهد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن أبي نجيح عنه‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ النجم والنجوم، ذهب إلى لفظ الواحد وهو بمعنى الجميع قال الشاعر ‏"‏ وباتت تعد النجم في مستجره ‏"‏ قال الطبري‏:‏ هذا القول له وجه، ولكن ما أعلم أحدا من أهل التأويل قاله، والمختار قول مجاهد‏.‏

ثم روى من وجه آخر عن مجاهد أن المراد به القرآن إذا نزل‏.‏

ولابن أبي حاتم بلفظ‏:‏ النجم نجوم القرآن‏.‏

الحديث‏:‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ ذُو مِرَّةٍ ذُو قُوَّةٍ قَابَ قَوْسَيْنِ حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ ضِيزَى عَوْجَاءُ وَأَكْدَى قَطَعَ عَطَاءَهُ رَبُّ الشِّعْرَى هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ الَّذِي وَفَّى وَفَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ سَامِدُونَ الْبَرْطَمَةُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ أَفَتُمَارُونَهُ أَفَتُجَادِلُونَهُ وَمَنْ قَرَأَ أَفَتَمْرُونَهُ يَعْنِي أَفَتَجْحَدُونَهُ وَقَالَ مَا زَاغَ الْبَصَرُ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَغَى وَمَا جَاوَزَ مَا رَأَى فَتَمَارَوْا كَذَّبُوا وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا هَوَى غَابَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَغْنَى وَأَقْنَى أَعْطَى فَأَرْضَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ ذو مرة ذو قوة‏)‏ وصله الفريابي بلفظ ‏(‏شديد القوي ذو مرة‏)‏ قوة جبريل‏.‏

وقال أبو عبيدة ذو مرة أي شدة وإحكام‏.‏

وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏ذو مرة‏)‏ قال‏:‏ ذو خلق حسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قاب قوسين حيث الوتر من القوس‏)‏ سقط هذا لأبي ذر ووصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه‏.‏

وقال أبو عبيدة قاب قوسين أي قدر قوسين أو أدنى أو أقرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضيزي عوجاء‏)‏ وصله الفريابي أيضا‏.‏

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة‏:‏ ضيزي جائرة‏.‏

وأخرج الطبري من وجه ضعيف عن ابن عباس مثله‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ ناقصة، تقول ضأزته حقه نقصته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأكدي قطع عطاءه‏)‏ وصله الفريابي بلفظ ‏"‏ اقتطع عطاءه ‏"‏ وروى الطبري من هذا الوجه عن مجاهد أن الذي نزلت فيه هو الوليد بن المغيرة ومن طريق أخرى منقطعة عن ابن عباس أعطي قليلا أي أطاع قليلا ثم انقطع‏.‏

وأخرج ابن مردويه من وجه لين عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة‏.‏

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أعطي قليلا ثم قطع ذلك‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ مأخوذ من الكدية بالضم وهو أن يحفر حتى ييأس من الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رب الشعري هو مرزم الجوزاء‏)‏ وصله الفريابي بلفظه‏.‏

وأخرج الطبري من طريق خصيف عن مجاهد قال‏:‏ الشعري الكوكب الذي خلف الجوزاء كانوا يعبدونه وأخرج الفاكهي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت في خزاعة وكانوا يعبدون الشعري، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء‏.‏

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال‏:‏ كان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي يقال له الشعري‏.‏

وأخرجه الطبري من وجه آخر عن مجاهد قال‏:‏ النجم الذي يتبع الجوزاء‏.‏

وقال أبو حنيفة الدينوري في ‏"‏ كتاب الأنواء ‏"‏‏:‏ الغدرة والشعري العبور والجوزاء في نسق واحد وهن نجوم مشهورة، قال‏:‏ وللشعري ثلاثة أزمان إذا رؤيت غدوة طالعة فذاك صميم الحر، وإذا رؤيت عشاء طالعة فذاك صميم البرد، ولها زمان ثالث وهو وقت نوئها‏.‏

وأحد كوكبي الذراع المقبوضة هي الشعري الغميصاء وهي تقابل الشعري العبور والمجرة بينهما، ويقال لكوكبها الآخر الشمالي المرزم مرزم الذراع، وهما مرزمان هذا وآخر في الجوزاء، وكانت العرب تقول انحدر سهيل فصار يمانيا فتبعته الشعري فعبرت إليه المجرة وأقامت الغميصاء فبكت عليه حتى غمصت عينها والشعريان الغميصاء والعبور يطلعان معا‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ المرزم بكسر الميم وسكون الراء وفتح الزاي نجم يقابل الشعري من جهة القبلة لا يفارقها وهو الهنعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذي وفي وفي ما فرض عليه‏)‏ وصله الفريابي بلفظه، وروى سعيد بن منصور عن عمرو بن أوس قال‏:‏ وفي أي بلغ‏.‏

وروى ابن المنذر من وجه آخر عن عمرو بن أوس قال كان الرجل يؤخذ بذنب غيره حتى جاء إبراهيم فقال الله تعالى ‏(‏وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى‏)‏ ومن طريق هذيل بن شرحبيل نحوه، وروى الطبري بإسناد ضعيف عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى، لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى‏:‏ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ‏"‏ وروى عبد بن حميد بإسناد ضعيف عن أبي أمامة مرفوعا‏:‏ وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أزفت الآزفة اقتربت الساعة‏)‏ سقط هذا لأبي ذر هنا ويأتي في الرقاق، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ دنت القيامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سامدون‏:‏ البرطمة‏)‏ كذا لهم وفي رواية الحموي والأصيلي والقابسي ‏"‏ البرطنة ‏"‏ بالنون بدل الميم‏.‏

‏(‏وقال عكرمة يتغنون بالحميرية‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏أفمن هذا الحديث تعجبون‏)‏ قال‏:‏ من هذا القرآن‏.‏

‏(‏وأنتم سامدون‏)‏ قال‏:‏ البرطمة‏.‏

قال وقال عكرمة‏:‏ السامدون يتغنون بالحميرية، ورواه الطبري من هذا الوجه عن مجاهد قال‏:‏ كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين‏.‏

قال وقال عكرمة هو الغناء بالحميرية‏.‏

وروى ابن عيينة في تفسيره عن ابن أبي نجيح عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏(‏وأنتم سامدون‏)‏ هو الغناء بالحميرية يقولون‏:‏ أسمد لنا أي غن لنا‏.‏

وأخرجه أبو عبيد في ‏"‏ فضائل القرآن ‏"‏ وعبد الرزاق من وجهين آخرين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏وأنتم سامدون‏)‏ قال‏:‏ الغناء‏.‏

قال عكرمة وهي بلغة أهل اليمن، إذا أراد اليماني أن يقول تغن قال اسمد‏.‏

لفظ عبد الرزاق‏.‏

وأخرجه من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لاهون‏.‏

وعن معمر عن قتادة قال‏:‏ غافلون‏.‏

ولابن مردويه من طريق محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ معرضون‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ البرطمة بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الطاء المهملة الإعراض‏.‏

وقال ابن عيينة‏:‏ البرطمة هكذا ووضع ذقنه في صدره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إبراهيم أفتمارونه‏:‏ أفتجادلونه‏)‏ وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم النخعي به، وجاء عن إبراهيم بهذا الإسناد فيه القراءة التي بعد هذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن قرأ أفتمرونه يعني أفتجحدونه‏)‏ كذا لهم‏.‏

وفي رواية الحموي ‏"‏ أفتجحدون ‏"‏ بغير ضمير، وقد وصله الطبري أيضا عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقرأ ‏(‏أفتمارونه‏)‏ يقول‏:‏ أفتجحدونه فكأن إبراهيم قرأ بهما معا وفسرهما، وقد صرح بذلك سعيد بن منصور في روايته المذكورة عن هشيم، قال الطبري‏:‏ وهكذا قرأ ابن مسعود وعامة قراء أهل الكوفة، وقرأها الباقون وبعض الكوفيين ‏(‏أفتمارونه‏)‏ أي تجادلونه‏.‏

قلت‏:‏ قرأها من الكوفيين عاصم كالجمهور‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ كان شريح يقرأ ‏(‏أفتمارونه‏)‏ ومسروق يقرأ ‏"‏ أفتمرونه‏"‏، وجاء عن الشعبي أنه قرأها كذلك لكن بضم التاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما زاغ البصر بصر محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ وقال ما زاغ إلخ ‏"‏ ولم يعين القائل، وهو قول الفراء‏.‏

وقال في قوله تعالى ‏(‏ما زاغ البصر‏)‏ ‏:‏ بصر محمد يقلبه يمينا وشمالا‏.‏

وأخرج الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي في قوله‏:‏ ‏(‏ما زاغ البصر‏)‏ قال‏:‏ رأى محمد جبريل في صورة الملك‏.‏

ومسألة الرؤية مشهورة سيأتي ذكرها في شرح حديث عائشة في هذه السورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما طغى وما جاوز ما رأى‏)‏ لا رواية الكشميهني ‏"‏ ولا بدل ‏"‏ وما هو بقية كلام الفراء أيضا ولفظه ‏"‏ وما جاوز‏"‏‏.‏

وروى الطبري من طريق مسلم البطين عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏ما زاغ البصر‏)‏ ما ذهب يمينا ولا شمالا ‏(‏وما طغى‏)‏ ما جاوز ما أمر به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتماروا كذبوا‏)‏ كذا لهم، ولم أر في هذه السورة ‏"‏ فتماروا ‏"‏ وإنما فيها ‏(‏أفتمارونه‏)‏ وقد تقدم ما فيها، وفي آخرها تتمارى‏.‏

ولعله انتقال من بعض النساخ لأن هذه اللفظة في السورة التي تلي هذه، وهي قوله‏:‏ ‏(‏فتماروا بالنذر‏)‏ ، وحكى الكرماني عن بعض النسخ هنا ‏"‏ تتمارى تكذب ‏"‏ ولم أقف عليه، وهو بمعنى ما تقدم‏.‏

ثم ظهر لي بعد ذلك أنه اختصر كلام الفراء، وذلك أنه قال في قوله تعالى ‏(‏فبأي آلاء ربك تتمارى‏)‏ قال‏:‏ فبأي نعمة ربك تكذب أنها ليست منه، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏فتماروا بالنذر‏)‏ كذبوا بالنذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن‏:‏ إذا هوى غاب‏)‏ وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس‏:‏ أغنى وأقنى أعطى فأرضى‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه‏.‏

وأخرج الفريابي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ أقني قنع‏.‏

ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال‏:‏ أخدم‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ أقنى جعل له قنية أي أصول مال، قال وقالوا‏:‏ أقنى أرضى، يشير إلى تفسير ابن عباس، وتحقيقه أنه حصل له قنية من الرضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو ابن موسى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عامر‏)‏ هو الشعبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن مسروق‏)‏ في رواية الترمذي زيادة قصة في سياقه، فأخرج من طريق مجالد عن الشعبي قال ‏"‏ لقي ابن عباس كعبا بعرفة فسأله عن شيء فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس‏:‏ إنا بنو هاشم، فقال له كعب إن الله قسم رؤيته وكلامه ‏"‏ هكذا في سياق الترمذي، وعند عبد الرزاق من هذا الوجه ‏"‏ فقال ابن عباس‏:‏ إنا بنو هاشم نقول إن محمدا رأى ربه مرتين، فكبر كعب وقال‏:‏ إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين‏.‏

قال مسروق‏:‏ فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه ‏"‏ الحديث‏.‏

ولابن مردويه من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن كعب مثله، قال - يعني الشعبي - فأتى مسروق عائشة فذكر الحديث فظهر بذلك سبب سؤال مسروق لعائشة عن ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا أمتاه‏)‏ أصله يا أم والهاء للسكت فأضيف إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء وزيدت هاء السكت بعد الألف‏.‏

ووقع في كلام الخطابي إذا نادوا قالوا يا أمة عند السكت، وعند الوصل يا أمة بالمثناة، فإذا فتحوا للندبة قالوا يا أمتاه والهاء للسكت‏.‏

وتعقبه الكرماني بأن قول مسروق يا أمتاه ليس للندبة إذ ليس هو تفجعا عليها، وهو كما قال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه‏؟‏ قالت‏:‏ لقد قف شعري‏)‏ أي قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شميل القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أين أنت من ثلاث‏)‏ ‏؟‏ أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاثة‏؟‏ وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها ومعتقدا كذب من يدعي وقوعها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب‏)‏ تقدم في بدء الخلق من رواية القاسم ابن محمد عن عائشة ‏"‏ من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم ‏"‏ ولمسلم من حديث مسروق المذكور من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي ‏"‏ فقد أعظم على الله الفرية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قرأت‏:‏ لا تدركه الأبصار‏)‏ قال النووي تبعا لغيره‏:‏ لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها لذكرته، وإذا اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية‏.‏

انتهي‏.‏

وجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه‏:‏ النفي لا يوجب علما، ولم تحك عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم ير ربه، وإنما تأولت الآية‏.‏

انتهى‏.‏

وهو عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في الطريق المذكورة قال مسروق ‏"‏ وكنت متكئا فجلست فقلت‏.‏

ألم يقل الله ‏(‏ولقد رآه نزلة أخرى‏)‏ فقالت‏:‏ أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ إنما هو جبريل ‏"‏ وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الإسناد ‏"‏ فقالت‏:‏ أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت‏:‏ يا رسول الله هل رأيت ربك‏؟‏ فقال‏:‏ لا إنما رأيت جبريل منهبطا ‏"‏ نعم احتجاج عائشة بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ رأى محمد ربه، قلت‏:‏ أليس الله يقول ‏(‏لا تدركه الأبصار‏)‏ ‏؟‏ قال‏:‏ ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين ‏"‏ وحاصله أن المراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه لا نفي أصل رؤياه‏.‏

واستدل القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ لأن الإدراك لا ينافي الرؤية بقوله تعالى حكاية عن أصحاب موسى ‏(‏فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا وهو استدلال عجيب لأن متعلق الإدراك في آية الأنعام البصر، فلما نفي كان ظاهره نفي الرؤية، بخلاف الإدراك الذي في قصة موسى، ولولا وجود الإخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن الظاهر‏.‏

ثم قال القرطبي‏:‏ الأبصار في الآية جمع محلى بالألف واللام فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا في قوله تعالى ‏(‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏)‏ فيكون المراد الكفار بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى ‏(‏وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة‏)‏ قال‏:‏ وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي انتهي‏.‏

وهو استدلال جيد‏.‏

وقال عياض‏:‏ رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة عقلا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا فقال مالك‏:‏ إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي‏.‏

قال عياض‏:‏ وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة، فإذا قدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه ‏"‏ واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ‏"‏ وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبي أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه‏.‏

وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه‏.‏

وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه‏.‏

ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه‏؟‏ وعن أحمد كالقولين‏.‏

قلت‏:‏ جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال‏:‏ أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد‏؟‏ وأخرجه ابن خزيمة بلفظ ‏"‏ إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس‏:‏ هل رأى محمد ربه‏؟‏ فأرسل إليه أن نعم‏.‏

ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏)‏ ‏(‏ولقد رآه نزلة أخرى‏)‏ قال‏:‏ رأي ربه بفؤاده مرتين‏.‏

وله من طريق عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ رآه بقلبه وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضا عن ابن عباس قال‏:‏ لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه، إنما رآه بقلبه‏.‏

وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب‏.‏

ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام‏.‏

بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها في العين، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال ‏"‏ رأى محمد ربه‏"‏، وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ‏"‏ نور أني أراه ‏"‏ ولأحمد عنه، قال ‏"‏ رأيت نورا ‏"‏ ولابن خزيمة عنه قال ‏"‏ رآه بقلبه ولم يره بعينه‏"‏‏.‏

وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور أي النور حال بين رؤيته له ببصره، وقد رجح القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ قول الوقف في هذه المسألة وعزاه الجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، قال وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي وجنح ابن خزيمة في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ إلى ترجيح الإثبات وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين مرة بعينه ومرة بقلبه، وفيما أوردته من ذلك مقنع‏.‏

وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد فروى الخلال في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ عن المروزي قلت لأحمد إنهم يقولون إن عائشة قالت ‏"‏ من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ‏"‏ فبأي شيء يدفع قولها‏؟‏ قال‏:‏ بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي، قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها‏.‏

وقد أنكر صاحب ‏"‏ الهدى ‏"‏ على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه قال‏:‏ وإنما قال مرة رأى محمد ربه وقال مرة بفؤاده‏.‏

وحكى عنه بعض المتأخرين رآه بعيني رأسه وهذا من تصرف الحاكي، فإن نصوصه موجودة‏.‏

ثم قال ينبغي أن يعلم الفرق بين قولهم كان الإسراء مناما وبين قولهم كان بروحه دون جسده فإن بينهما فرقا، فإن الذي يراه النائم قد يكون حقيقة بأن تصعد الروح مثلا إلى السماء، وقد يكون من ضرب المثل أن يرى النائم ذلك وروحه لم تصعد أصلا، فيحتمل من قال أسرى بروحه ولم يصعد جسده أراد أن روحه عرج بها حقيقة فصعدت ثم رجعت وجسده باق في مكانه خرقا للعادة، كما أنه في تلك الليلة شق صدره والتأم وهو حي يقظان لا يجد بذلك ألما انتهى‏.‏

وظاهر الأخبار الواردة في الإسراء تأبى الحمل على ذلك، بل أسرى بجسده وروحه وعرج بهما حقيقة في اليقظة لا مناما ولا استغراقا، والله أعلم‏.‏

وأنكر صاحب ‏"‏ الهدى ‏"‏ أيضا على من زعم أن الإسراء تعدد واستند إلى استبعاد أن يتكرر قوله ‏"‏ ففرض عليه خمسين صلاة وطلب التخفيف ‏"‏ إلى آخر القصة فإن دعوى التعدد تستلزم أن قوله تعالى ‏"‏ أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ‏"‏ أن فرضية الخمسين وقعت بعد أن وقع التخفيف، ثم وقع سؤال التخفيف والإجابة إليه وأعيد ‏"‏ أمضيت فريضتي ‏"‏ إلى آخره، انتهى‏.‏

وما أظن أحدا ممن قال بالتعدد يلتزم إعادة مثل ذلك يقظة، بل يجوز وقوع مثل ذلك مناما ثم وجوده يقظة كما في قصة المبعث، وقد تقدم تقريرها‏.‏

ويجوز تكرير إنشاء الرؤية ولا تبعد العادة تكرير وقوعه كاستفتاح السماء وقول كل نبي ما نسب إليه، بل الذي يظن أنه تكرر مثل حديث أنس رفعه ‏"‏ بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر فقعدت في أحدهما وقعد جبريل في الأخرى فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلى جبريل كأنه جلس لأجلي وفتح بابا من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم وإذا دونه الحجاب وفوقه الدر والياقوت، فأوحى إلى عبده ما أوحى ‏"‏ أخرجه البزار وقال‏:‏ تفرد به الحارث بن عمير وكان بصريا مشهورا‏.‏

قلت‏:‏ وهو من رجال البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب‏)‏ هو دليل ثان استدلت به عائشة على ما ذهبت إليه من نفي الرؤية، وتقريره أنه سبحانه وتعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه، وهي الوحي بأن يلقى في روعه ما يشاء، أو يكلمه بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم‏.‏

والجواب أن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقا قاله القرطبي، قال‏:‏ وعامة ما يقتضي نفي تكليم الله على غير هذه الأحوال الثلاثة، فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا إلخ‏)‏ تقدم شرح ذلك واضحا في تفسير سورة لقمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ يا أيها الرسول بلغ الآية‏)‏ يأتي شرحه في كتاب التوحيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن رأى جبريل في صورته مرتين‏)‏ في رواية الكشمهيني ‏"‏ ولكنه ‏"‏ وهذا جواب عن أصل السؤال الذي سأل عنه مسروق كما تقدم بيانه وهو قوله‏:‏ ‏(‏ما كذب الفؤاد ما رأي‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ولقد رآه نزلة أخرى‏)‏ ولمسلم من وجه آخر عن مسروق أنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء‏.‏

وله في رواية داود بن أبي هند ‏"‏ رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، ‏"‏ وللنسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود ‏"‏ أبصر جبريل ولم يبصر ربه‏"‏

*3*باب فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فكان قاب قوسين أو أدنى حيث الوتر من القوس‏)‏ تقدم هذا التفسير قريبا عن مجاهد، وثبتت هذه الترجمة لأبي ذر وحده، وهي عند الإسماعيلي أيضا‏.‏

والقاب ما بين القبضة والسية من القوس، قال الواحدي‏:‏ هذا قول جمهور المفسرين أن المراد القوس التي يرمي بها‏.‏

قال‏:‏ وقيل المراد بها الذراع لأنه يقاس بها الشيء‏.‏

قلت‏:‏ وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح عن ابن عباس قال‏:‏ القاب القدر، والقوسين الذراعان‏.‏

ويؤيده أنه لو كان المراد به القوس التي يرمى بها لم يمثل بذلك ليحتاج إلى التثنية، فكان يقال مثلا‏:‏ قاب رمح أو نحو ذلك‏.‏

وقد قيل إنه على القلب والمراد‏:‏ فكان قابي قوس، لأن القاب ما بين المقبض إلى السية، فلكل قوس قابان بالنسبة إلى خالفته‏.‏

وقوله ‏"‏أو أدنى ‏"‏ أي أقرب‏.‏

قال الزجاج‏:‏ خاطب الله العرب بما ألفوا، والمعنى فيما تقدرون أنتم عليه، والله تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه لا تردد عنده‏.‏

وقيل ‏"‏ أو ‏"‏ بمعنى ‏"‏ بل ‏"‏ والتقرير بل هو أقرب من القدر المذكور، وسيأتي بيان الاختلاف في معنى قوله ‏"‏ فتدلى ‏"‏ في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ زِرًّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الواحد‏)‏ هو ابن له زياد، وسليمان هو الشيباني، وزر هو ابن حبيش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، قال حدثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل‏)‏ هكذا أوره، والمراد بقوله ‏"‏ عن عبد الله ‏"‏ وهو ابن مسعود أنه قال في تفسير هاتين الآيتين ما سأذكره، ثم استأنف فقال ‏"‏ حدثنا ابن مسعود ‏"‏ وليس المراد أن ابن مسعود حدث عبد الله كما هو ظاهر السياق، بل عبد الله هو ابن مسعود‏.‏

وقد أخرجه في الباب الذي يليه من وجه آخر عن الشيباني فقال‏:‏ سألت زرا عن قوله، فذكره‏.‏

ولا إشكال في سياقه‏.‏

وقد أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق سليمان بن داود الهاشمي عن عبد الواحد بن زياد عن الشيباني قال ‏"‏ سألت زر بن حبيش عن قول الله ‏(‏فكان قاب قوسين أو أدنى‏)‏ فقال‏:‏ قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكره

*3*باب قَوْلِهِ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى

الشرح‏:‏

قول ‏(‏باب قول تعالى فأوحى إلى عبده ما أوحى‏)‏ ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر وحده، وهي عند الإسماعيلي أيضا وأورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الذي قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن محمد‏)‏ الضمير للعبد المذكور في قوله تعالى ‏(‏إلى عبده‏)‏ ووقع عند أبي ذر ‏"‏ أن محمدا رأى جبريل ‏"‏ وهذا أوضح في المراد‏.‏

والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى أي جبريل إلى عبده أي عبد الله محمد لأنه يرى أن الذي دنا فتدلى هو جبريل، وأنه هو الذي أوحى إلى محمد‏.‏

وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى عبده محمد، ومنهم من قال‏:‏ إلى جبريل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏له ستمائة جناح‏)‏ زاد عاصم عن زر في هذا الحديث ‏"‏ يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت ‏"‏ أخرجه النسائي وابن مردويه، ولفظ النسائي ‏"‏ يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت‏"‏

*3*باب لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏)‏ ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر والإسماعيلي، واختلف في الآيات المذكورة فقيل‏:‏ المراد بها جميع ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وحديث الباب يدل على أن المراد صفة جبريل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى قَالَ رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن مسعود لقد رأى‏)‏ أي في تفسير هذه الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق‏)‏ هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد ما أخرجه النسائي والحاكم من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال ‏"‏ أبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ‏"‏ فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل والصفة التي كان عليها، وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي وفي رواية ابن عيينة عند النسائي كلاهما عن الشيباني عن زر عن عبد الله أنه رأى جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق، والمراد أن الذي سد الأفق الرفرف الذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا‏.‏

وفي رواية أحمد والترمذي وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏متكئين على رفرف‏)‏ وأصل الرفرف ما كان من الديباج رقيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثني فهو رفرف، ويقال رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما‏.‏

وقال بعض الشراح‏:‏ يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته فصارت تشبه الرفرف، كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد‏.‏

*3*بَاب أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى كَانَ اللَّاتُ رَجُلًا يَلُتُّ سَوِيقَ الْحَاجِّ

الشرح‏:‏

أحدهما حديث ابن عباس، وأبو الأشهب المذكور في الإسناد هو جعفر بن حيان، وأبو الجوزاء بالجيم والزاي هو أوس بن عبد الله، والإسناد كله بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في قوله اللات والعزى كان اللات رجلا يلت سويق الحاج‏)‏ سقط ‏"‏ في قوله ‏"‏ لغير أبي ذر، وهذا موقوف على ابن عباس، قال الإسماعيلي‏:‏ هذا التفسير على قراءة من قرأ اللات بتشديد التاء‏.‏

قلت‏:‏ وليس ذلك بلازم، بل يحتمل أن يكون هذا أصله وخفف لكثرة الاستعمال، والجمهور على القراءة بالتخفيف‏.‏

وقد روى التشديد عن قراءة ابن عباس وجماعة من أتباعه، ورويت عن ابن كثير أيضا، والمشهور عنه التخفيف كالجمهور‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ولفظه فيه زيادة ‏"‏ كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه ‏"‏ واختلف في اسم هذا الرجل، فروى الفاكهي من طريق مجاهد قال ‏"‏ كان رحل في الجاهلية على صخرة بالطائف وعليها له غنم، فكان يسلو من رسلها ويأخذ من زبيب الطائف والأقط فيجعل منه حيسا ويطعم من يمر به من الناس، فلما مات عبدوه ‏"‏ وكان مجاهد يقرأ اللات مشددة‏.‏

ومن طريق ابن جريج نحوه، قال وزعم بعض الناس أنه عامر بن الظرب انتهى‏.‏

وهو بفتح الظاء المشالة وكسر الراء ثم موحدة وهو العدواني بضم المهملة وسكون الدال، وكان حكم العرب في زمانه، وفيه يقول شاعرهم ‏"‏ ومنا حكم يقضي، ولا ينقض ما يقضي ‏"‏ وحكى السهيلي أنه عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر، قال ويقال هو عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة وهو والد خزاعة انتهى‏.‏

وحرف بعض الشراح كلام السهيلي وظن أن ربيعة بن حارثة قول آخر في اسم اللات، وليس كذلك، وإنما ربيعة بن حارثة اسم لحي فيما قيل، والصحيح أن اللات غير عمرو بن لحي، فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي‏:‏ إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا‏.‏

وقد تقدم في مناقب قريش أن عمرو بن لحي هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام، وهو يؤيد هذه الرواية‏.‏

وحكى ابن الكلبي أن اسمه صرمة بن غنم، وكانت اللات بالطائف وقيل بنخلة وقيل بعكاظ، والأول أصح‏.‏

وقد أخرجه الفاكهي أيضا من طريق مقسم عن ابن عباس، قال هشام بن الكلبي‏:‏ كانت مناة أقدم من اللات فهدمها علي عام الفتح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت اللات أحدث من مناة فهدمها المغيرة بن شعبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلمت ثقيف، وكانت العزى أحدث من اللات وكان الذي اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق فهدمها خالد بن الوليد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال في حلفه‏)‏ أي في يمينه‏.‏

وعند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص ما يشبه أن يكون سببا لحديث الباب، فأخرجوا من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال ‏"‏ كنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحابي‏:‏ بئس ما قلت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ‏"‏ الحديث‏.‏

قال الخطابي‏:‏ اليمين إنما تكون بالمعبود المعظم، فإذا حلف باللات ونحوها فقد ضاهى الكفار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ من حلف بها جادا فهو كافر، ومن قالها جاهلا أو ذاهلا يقول لا اله إلا الله يكفر الله عنه ويرد قلبه عن السهو إلى الذكر ولسانه إلى الحق وينفي عنه ما جرى به من اللغو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق‏)‏ قال الخطابي‏:‏ أي بالمال الذي كان يريد أن يقامر به، وقيل بصدقة ما لتكفر عنه القول الذي جرى على لسانه‏.‏

قال النووي‏:‏ وهذا هو الصواب، وعليه يدل ما في رواية مسلم ‏"‏ فليتصدق بشيء ‏"‏ وزعم بعض الحنفية أنه يلزمه كفارة يمين، وفيه ما فيه‏.‏

قال عياض‏:‏ في هذا الحديث حجة للجمهور أن العزم على المعصية إذا استقر في القلب كان ذنبا يكتب عليه، بخلاف الخاطر الذي لا يستمر‏.‏

قلت‏:‏ ولا أدري من أين أخذ ذلك مع التصريح في هذا الحديث بصدور القول حيث نطق بقوله ‏"‏ تعال أقامرك ‏"‏ فدعاه إلى المعصية، والقمار حرام باتفاق، فالدعاء إلى فعله حرام، فليس هنا عزم مجرد‏.‏

وسيأتي بقية شرحه في كتاب الأيمان والنذور‏.‏

ووقع الإلمام بمسألة العزم في أواخر الرقاق في شرح حديث ‏"‏ من هم بحسنة‏"‏

*3*باب وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومناة الثالثة الأخرى‏)‏ سقط ‏"‏ باب ‏"‏ لغير أبي ذر، وقد تقدم شرح مناة في سورة البقرة، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ‏"‏ مناءة ‏"‏ بالمد والهمز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ إِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ بِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ سُفْيَانُ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَّانُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ نَحْوَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لعائشة رضي الله عنها فقالت‏)‏ كذا أورده مختصرا، وتقدم في تفسير البقرة بيان ما قال، وأنه سأل عن وجوب السعي بين الصفا والمروة مع قوله تعالى ‏(‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏)‏ الآية وجواب عائشة له وفيه قولها إلى آخره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أهل المناة‏)‏ أي لأجل مناة، في رواية غير أبي ذر ‏"‏ بمناة ‏"‏ بالموحدة بدل اللام، أي أهل عندها أو أهل باسمها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سفيان مناة بالمشلل‏)‏ بفتح المعجمة واللام الثقيلة ثم لام ثانية، وهو موضع من قديد من ناحية البحر، وهو الجبل الذي يهبط منه إليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قديد‏)‏ بالقاف والمهملة مصغر، هو مكان معروف بين مكة والمدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الرحمن بن خالد‏)‏ أي ابن مسافر ‏(‏عن ابن شهاب‏)‏ هو الزهري، وصله الذهلي والطحاوي من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بطوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نزلت في الأنصار كانوا هم وغسان قبل أن يسلموا يهلون لمناة مثله‏)‏ أي مثل حديث ابن عيينة الذي قبله‏.‏

وأخرج الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال ‏"‏ نصب عمرو بن لحي مناة على ساحل البحر مما يلي قديد يحجونها ويعظمونها إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال معمر إلخ‏)‏ وصله الطبري عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق مطولا، وقد تقدم الحديث بطوله من وجه آخر عن الزهري في كتاب الحج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صنم بين مكة والمدينة‏)‏ قد تقدم بيان مكانه، وهو بين مكة والمدينة كما قال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تعظيما لمناة نحوه‏)‏ بقيته عند الطبري ‏"‏ فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ قال الزهري فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر حديثه عن رجال من أهل العلم، وفي آخره ‏"‏ نزلت في الفريقين كليهما‏:‏ من طاف ومن لم يطف‏"‏

*3*باب فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فاسجدوا لله واعبدوا‏)‏ في رواية الأصيلي ‏"‏ واسجدوا ‏"‏ وهو غلط‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُلَيَّةَ ابْنَ عَبَّاسٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، تابعه ابن طهمان عن أيوب‏)‏ في رواية أبي ذر إبراهيم بن طهمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يذكر ابن علية ابن عباس‏)‏ أما متابعة إبراهيم بن طهمان فوصلها الإسماعيلي من طريق حفص بن عبد الله النيسابوري عنه بلفظ ‏"‏ أنه قال حين نزلت السورة التي يذكر فيها النجم سجد لها الإنس والجن ‏"‏ وقد تقدم ذكرها في سجود التلاوة، وأما حديث ابن علية فالمراد به أنه حدث به عن أيوب فأرسله، وأخرجه ابن أبي شيبة عنه، وهو مرسل، وليس ذلك بقادح لاتفاق ثقتين عن أيوب على وصله وهما عبد الوارث وإبراهيم بن طهمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والجن والإنس‏)‏ إنما أعاد الجن والإنس مع دخولهم في المسلمين لنفي توهم اختصاص ذلك بالإنس، وسأذكر ما فيه في الكلام على الحديث الذي بعده‏.‏

قال الكرماني‏:‏ سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم قلت‏:‏ والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفا من حصى فوضع جبهته عليه فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، قال‏:‏ وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلا ولا نقلا، انتهى‏.‏

ومن تأمل ما أوردته من ذلك في تفسير سورة الحج عرف وجه الصواب في هذه المسألة بحمد الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ قَالَ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود، وأبو أحمد المذكور في إسناده هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي لما فرغ من قراءتها، وقد قدمت في تفسير الحج من حديث ابن عباس بيان ذلك والسبب فيه‏.‏

ووقع في رواية زكريا عن أبي إسحاق في أول هذا الحديث ‏"‏ أن أول سورة استعان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ على الناس النجم ‏"‏ وله من رواية زهير بن معاوية ‏"‏ أول سورة قرأها على الناس النجم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا رجلا‏)‏ في رواية شعبة في سجود القرآن ‏"‏ فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى ‏"‏ وهذا ظاهره تعميم سجودهم، لكن روى النسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة قال ‏"‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فسجد وسجد من عنده، وأبيت أن أسجد ‏"‏ ولم يكن يومئذ أسلم ‏"‏ قال المطلب‏:‏ فلا أدع السجود فيها أبدا ‏"‏ فيحمل تعميم ابن مسعود على أنه بالنسبة إلى من اطلع عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كفا من تراب‏)‏ في رواية شعبة ‏"‏ كفا من حصى أو تراب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسجد عليه‏)‏ في رواية شعبة ‏"‏ فرفعه إلى وجهه فقال‏:‏ يكفيني هذا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرأيته بعد ذلك قتل كافرا‏)‏ في رواية شعبة ‏"‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ فلقد رأيته بعد قتل كافرا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو أمية بن خلف‏)‏ لم يقع ذلك في رواية شعبة، وقد وافق إسرائيل على تسميته زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عند الإسماعيلي وهذا هو المعتمد، وعند ابن سعد أن الذي لم يسجد هو الوليد بن المغيرة قال‏:‏ وقيل سعيد بن العاص بن أمية، قال وقال بعضهم كلاهما جميعا، وجزم ابن بطال في ‏"‏ باب سجود القرآن ‏"‏ بأنه الوليد، وهو عجيب منه مع وجود التصريح بأنه أمية بن خلف ولم يقتل ببدر كافرا من الذين سموا عنده غيره‏.‏

ووقع في تفسير ابن حبان أنه أبو لهب، وفي ‏"‏ شرح الأحكام لابن بزيزة ‏"‏ أنه منافق، ورد بأن القصة وقعت بمكة بلا خلاف ولم يكن النفاق ظهر بعد، وقد جزم الواقدي بأنها كانت في رمضان سنة خمس، وكانت المهاجرة الأولى إلى الحبشة خرجت في شهر رجب فلما بلغهم ذلك رجعوا فوجدوهم على حالهم من الكفر فهاجروا الثانية، ويحتمل أن يكون الأربعة لم يسجدوا، والتعميم في كلام ابن مسعود بالنسبة إلى ما اطلع عليه كما قلته في المطلب، لكن لا يفسر الذي في حديث ابن مسعود إلا بأمية لما ذكرته، والله أعلم